المعتمد بن عباد.. من ملكٍ عظيم إلى سجينٍ في المنفى

في الأندلس، في القرن الخامس الهجري، كانت إشبيلية تزدان بالعمران والأنهار والبساتين، وكان ملكها المعتمد بن عباد واحدًا من أشهر ملوكها وأعظمهم شأنًا.
كان شاعرًا رقيق القلب، فارسًا شجاعًا، وملكًا ذا هيبة ومجد، جمع بين السيف والقلم، وبين القوة والعاطفة.


💕المعتمد بن عباد: حب لا يشبه سواه

ذات يوم، خرج المعتمد يتمشّى على ضفاف نهر الوادي الكبير، فرأى جارية جميلة تغسل الثياب، وتمد يديها إلى الماء فتلعب بالرغوة البيضاء كأنها تصنع من الزبد دررًا.
أُعجب بها، ودنا منها وقال ممازحًا:

“ما أحسن ما تصنعين بالزبد!”
فأجابته ضاحكة:
“أيّها الأمير، لو أن الزبدُ من ذهبٍ لصنعتُ منه أجملَ من هذا!”

ضحك المعتمد إعجابًا بذكائها، وسأل عنها، فقيل له إنها تُدعى اعتماد الرميكية، جارية من أصل بسيط.
أمر بشرائها، وتزوّجها رغم اعتراض مستشاريه الذين رأوا أن الملك لا يليق به أن يتزوج جارية.
لكنه قال قولته الشهيرة:

“لقد أحببتها لجمال روحها، لا لحسبها!”

ومنذ ذلك اليوم، أصبحت اعتماد زوجته ورفيقة عمره، تشاركه المجد كما تشاركه الفقر لاحقًا.


👑 ملك الأندلس الفاتن

كان المعتمد من أعظم ملوك الطوائف، وكان مجلسه يعجّ بالشعراء والعلماء.
وكان هو نفسه شاعرًا مبدعًا، يقول الشعر في الغزل والسياسة والحرب.
كان يحب الجمال، ويبني القصور والبساتين، حتى أصبحت إشبيلية في عهده جنةً على الأرض.

لكن خلف هذا البذخ، كانت الأندلس تعيش خطرًا عظيمًا…
ففي الشمال، كان ملك قشتالة، ألفونسو السادس، يزحف على مدن المسلمين واحدة تلو الأخرى.


⚔️ قرار المصير

بدأ ألفونسو يطالب ملوك الطوائف بالجزية، ومنهم المعتمد، الذي كان يدفعها على مضض، حفاظًا على السلام.
لكن عندما سقطت طليطلة بيد القشتاليين عام 1085م، اهتزّ قلب المعتمد.
اجتمع بوزرائه، وقال:

“ويل للعرب من ذلٍّ يدفعونه بالمال! والله لأن أرعى الجمال في صحراء المغرب، خيرٌ لي من أن أرعى الخنازير في قشتالة!”

وهنا اتخذ قراره التاريخي:
استنجد بيوسف بن تاشفين، قائد المرابطين في المغرب، ليعبر البحر ويقاتل النصارى.


🏹 معركة الزلاقة

لبّى يوسف النداء، وجاء بجيشه، والتقى المسلمون بجيش ألفونسو في معركة الزلاقة سنة 1086م.
وكانت معركة عظيمة انتصر فيها المسلمون انتصارًا ساحقًا، وهُزم ألفونسو شرّ هزيمة.

لكن النصر لم يدم طويلًا…
فقد خشي يوسف بن تاشفين أن تبقى الأندلس ممزقة بين ملوك طوائف يتنازعونها، فعاد إليها بعد سنوات، وأسقط ممالك الطوائف واحدة تلو الأخرى.
ومن بينهم مملكة المعتمد نفسه.


🕊️ من عرشٍ إلى سجن

حوصرت إشبيلية، وقاتل المعتمد قتال الأبطال، لكن جيشه هُزم، وأُسر هو وأهله.
نُفي إلى مدينة صغيرة في المغرب تُسمّى أغمات قرب مراكش.
وهناك عاش سنواته الأخيرة فقيرًا بعد الغنى، وسجينًا بعد الملك.

وفي يومٍ ماطر، خرجت اعتماد زوجته الحبيبة، فوحلَت قدماها في الطين، فبكت قائلةً:

“يا مولاي، أين أيام الذهب والقصور؟”
فنظر إليها المعتمد، والدمعة في عينه، وقال:
“لا تبكي يا اعتماد، فوالله ما ندمنا على شيءٍ إلا على أننا لم نكن أكثر عدلًا وأقلَّ ترفًا!”


🕯️ نهاية شاعرٍ وملك

ظلّ المعتمد في منفاه ينظم الشعر، يشكو فيه غربته وحنينه إلى الأندلس.
ومن أشهر أبياته التي كتبها في أغمات:

فيما مضى كنتَ بالأعيادِ مسرورا
وكان عيدُك باللذّاتِ معمورا
وأصبحتْ في أغماتٍ مُعتقلا
ترى الدموعَ على الخدّينِ تجري طُورا

ومات هناك غريبًا، سنة 1095م تقريبًا، ودُفن في أغمات، ودفنت معه قصة من أروع قصص الحبّ والمجد والانكسار في تاريخ الأندلس.

أضف تعليق