عمرو بن العاص… العقل الذي قاده إلى الإيمان

كان عمرو بن العاص معروفًا بذكائه قبل أن يُعرف بإسلامه. رجلٌ لا يُخدع بسهولة، يقرأ الناس كما يقرأ الكِتاب المفتوح.
حين كان قومه في مكة يغضبون من دعوة محمد ﷺ، كان عمرو لا يغضب بقدر ما يفكّر. كان يسأل نفسه في الخفاء:

“كيف لرجل صادق أن يُتَّهم بالكذب؟ وكيف لدينٍ يجمع أفضل رجالنا أن يكون باطلًا؟”

لكن كبرياء الزعامة، ومكانته بين قريش، كانت تُقيّده عن الاقتراب أكثر من الحقيقة التي بدأت تلاحقه.


🌿عمرو بن العاص اللقاء مع النجاشي: أول تصدع في جدار العناد

أُرسل عمرو إلى الحبشة ليقنع النجاشي بطرد المسلمين المهاجرين. دخل القصر بثقة رجلٍ يعرف كيف يُقنع الملوك.
تحدث طويلًا عن “خطر” هؤلاء القوم، فاستأذن جعفر بن أبي طالب بالكلام، وتلا آياتٍ من سورة مريم.
سكت المجلس. وبكى النجاشي حتى بلّ دمعه لحيته.
نظر عمرو إلى الملك، ثم إلى جعفر، ولم يقل شيئًا، لكنه أدرك أن هناك شيئًا في هذا الدين لا يُقاوَم.
كانت تلك اللحظة أول شقّ في جدار عناده، وأول ضوءٍ في قلبه الذكيّ المتردد.


⚔️ من عقلٍ يحسب الأرباح إلى قلبٍ يبحث عن الحقيقة

مرّت السنوات، وبدأت رايات الإسلام ترفرف فوق جزيرة العرب.
توالت انتصارات المسلمين، ولم يبقَ عمرو في شكّ من أن هذا الدين ليس مجرد قوة بشرية.
حين التقى خالد بن الوليد وعثمان بن طلحة في طريقهم إلى المدينة، تبسّم وقال:

“عجيب! ما اجتمعنا على أمرٍ قط إلا وكان فيه الخير.”
ثم قرّر أن يسير معهم، لا طمعًا في نصر، بل بحثًا عن طمأنينةٍ لم يجدها في جاهه ولا في ذكائه.


🌤️ بين يدي النبي ﷺ

وقف عمرو بين يدي رسول الله ﷺ، متردّدًا، متأثرًا.
قال بصوتٍ يختلط فيه الخوف بالرجاء:

“يا رسول الله، أمدّ يدي لتبايعني، على أن يغفر الله لي ما كان قبل الإسلام.”
ابتسم النبي ﷺ وقال:
“يا عمرو، أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله؟”
حينها شعر عمرو كأنه يُولَد من جديد. لم يذق في حياته طعمًا للانتصار كهذا الانتصار على نفسه.


🏛️ دهاء في خدمة الإيمان

لم ينس عمرو دهاءه القديم، لكنه غيّر وجهته.
حين ولاه عمر بن الخطاب على فتح مصر، أدار المعركة بعقل القائد، لا بعنف المحارب.
كان يدرس الموقف، ويختار اللحظة، ويقول لجنوده:

“النصر لا يحتاج إلى كثرةٍ، بل إلى بصيرةٍ في الوقت المناسب.”
وفتح الله على يديه مصر، فدخلها الناس في الإسلام طوعًا، لا قهرًا.


🌅 لحظة الصدق الأخيرة

في مرض موته، جلس ابنه عبد الله إلى جواره، فرآه يبكي.
قال له:

“أتبكي وأنت صاحب رسول الله؟”
فقال عمرو بهدوء:
“يا بني، لقد كنتُ في الجاهلية أدهى الناس وأشدهم عداوةً لرسول الله، ثم أصبحتُ من أحبّ الناس إليه… فلا أدري أيُّ الحالين يُؤخذ بي غدًا.”
ثم رفع رأسه إلى السماء وقال:
“اللهم اجعل خير أيامي يوم ألقاك.”

وأسلم الروح بعد حياةٍ كان فيها مثالًا للعقل حين يهتدي، وللدهاء حين يتطهّر بالإيمان.


🌾 خلاصة

لم يكن عمرو بن العاص بطلاً بالسيف فقط، بل بالفكر والإرادة.
قوّته كانت في عقله، ولكن نجاته كانت في خضوع هذا العقل للحق.
وحين اجتمع الذكاء والإيمان في قلبه، صنع منهما مجدًا خالداً في تاريخ الإسلام.

أضف تعليق